سورة الأحزاب - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة ذكرت الأوصاف التي تجمع صفات المؤمن الكامل الإيمان.
ومن شأن الإيمان الصحيح أن يقيم في كيان صاحبه ولاء خالصا للّه، الذي آمن به، ولرسوله، الذي بلّغه رسالة ربّه، وشريعة دينه.. وإنه لا إيمان مطلقا، إذا لم يكن هذا الولاء ركيزة له، وأساسا يقوم عليه.
فهذه الآية إذن تعقيب على تلك الأوصاف العشرة السابقة، وإشارة إلى أن تلك الصفات، لا محصّل لها- مفردة ومجتمعة- إلا إذا قامت في ظلّ الولاء للّه ورسوله، والتسليم المطلق لأمر اللّه ورسوله.
فإذا قضى اللّه ورسوله أمرا، لم يكن لمؤمن أن ينازع في هذا الأمر، أو يتوقف في إمضائه، أو يبدّل في صفته.. وإلّا فهو ليس من الإيمان في شىء.. إنه حينئذ يكون عاصيا للّه ولرسول اللّه، خارجا عن سلطانهما.
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً}.
أما مناسبة الآية الكريمة لما بعدها فهو ترشيح لما ستقرره الآيات بعدها من مقررات، وبما تقضى به من أحكام للّه ولرسول اللّه، وأن على المؤمنين تلقى هذه المقررات وتلك الأحكام بما ينبغى لها، من طاعة وولاء مطلقين، من غير تعقيب أو تردّد.
فالآية في موضعها هنا، تعمل- مقدّما- على إخلاء شعور المؤمن من أية لفتة إلى غير ما يقضى به اللّه ورسوله من أمر.. وبهذا يستقبل المؤمن- في ولاء وامتثال- ما تحمل إليه الآيات التالية من أمر اللّه ورسوله.. كما سنرى.
قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}.
زينب.. وقصة زواج النبىّ منها:
في هذه الآية والآيات الثلاث التي بعدها، حدث من أحداث الإسلام، غرب به وجه من وجوه الحياة الجاهلية، وانتهى به أسلوب من أساليب نظامها الاجتماعى الموروث.
فقد كان الجاهليون يتخيّرون من يرون من أبناء غيرهم، ثم ينسبونهم إليهم نسبة الولد إلى أبيه، وقد كان هؤلاء المنتسبون إليهم بالتبني، في حكم أبنائهم من أصلابهم، يضافون إليهم إضافة أبوة، ويرثونهم إرث الابن لأبيه.
ويحرّمون التزوج من نساء هؤلاء الأبناء تحريما مطلقا.. وقد أبطل الإسلام هذا التبنّي بقوله تعالى في أول هذه السورة: {ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ.. ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ}.
ومن حكمة اللّه، أن كان للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم ابن بالتبنّي، هو زيد ابن حارثة.. وذلك ليكون في إبطال هذا التبنّي مثل يراه المؤمنون في النبىّ، حين يبطل نسبة زيد إليه، فلا يكون لمؤمن بعد هذا متعلّق بنسبة من كان منتسبا إليه من أبناء من غير صلبه.. وبهذا ينحسم الأمر في غير مهل أو تردد، إذ كان النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو أول من نفذ هذا القانون السّماوىّ، وأول من ألغى التبنّي الذي كان قائما بينه وبين أحبّ الناس إليه، زيد بن حارثة.. الذي كان يدعى زيد بن محمد، ويدعوه المسلمون زيد حبّ رسول اللّه.. ولو كان في هذا الأمر استثناء لكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولى الناس به، إذ لم يكن له ولد ذكر، ولكان هذا الاستثناء من خصوصيات النبي فيما كانت له- صلوات اللّه وسلامه عليه من خصوصيات. وهذا يعنى أن هذا الأمر حكم واجب على كل مسلم، وأنه أمر لا يرد عليه استثناء أبدا.
بقيت مسألة تحريم الزواج من نساء الأبناء بالتبنّي.. التي كان يلزم بها الجاهليون أنفسهم، تمكينا لهذا النسب بينهم وبين أدعيائهم، وجعله على قدم المساواة في كل شىء، مع أبناء الأصلاب.
وكان لا بدّ للقضاء على هذه العادة من مثل عملىّ يراه المسلمون في رسول اللّه، فيقتدون به، ولا يقع في صدورهم حرج من الخروج على هذا الإلف القديم.
ومن حكمة اللّه في هذا، أن كان زيد بن حارثة (متبنّى النبىّ) متزوجا من زينب بنت جحش الأسدية، وهى ابنة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد خطبها الرسول لزيد، وزوجها إياه، ولم تستطع زينب ولا أهلها مراجعة رسول اللّه في هذا الزواج، الذي كانت تراه زينب- ويراه أهلها معها- غبنا لها، إذ كانت ترى- ويرى أهلها معها- أنها أشرف من زيد بيتا، وأكرم نسبا.
ويتمّ الزواج، ويدخل زيد بزوجه.. ولكن لم يقع التوافق بينهما، إذ كانت زينب- كما عرفنا- تعيش مع زوجها بهذا الشعور المتعالي، وكان زوجها- إذ يجد منها هذا الشعور- يلقاها بما يحفظ عليه مروءته وأنفته كعربىّ، وبما يعطيه القوامة عليها كرجل، وكمسلم.. معا.
ولا شك أن هذا الزواج الذي لم يقم على التوافق من أول الأمر.. إنما هو تدبير من الحكيم العليم، وقد اصطنعه النبىّ بأمر من ربه، لحكمة ستكشف عنها الأيام فيما بعد..!
كان لا بد أن يمضى الأمر الإلهى في حلّ الزواج من زوجات الأبناء المتبنّين، بعد انتهاء الزوجية.. بأمر، أو بآخر.
وكان لا بد أيضا أن يكون النبىّ في هذا هو القدوة والأسوة، حتى يأخذ المسلمون بهذا الأمر، ولا يتحرجون منه.. وبهذا يقضى على عادة التبني، وما اتصل بها، في فوريّة وحشم.
وذلك لا يتم على تلك الصورة إلا إذا كان للنبىّ متبنّى.. وقد كان.
وأن يكون هذا الابن متزوجا.. وقد كان هذا أيضا..!!
ثم يبقى بعد ذلك أن يطلّق هذا الابن زوجه، حتى تحلّ للنبىّ بعد انقضاء عدتها.. وقد كان ذلك أيضا.. فطّلق زيد زوجه.. ثم لما انقضت عدّتها تزوّجها النبىّ! ولا نقف من هذا الزواج أكثر من أنه أمر أمر اللّه نبيّه به، وألزمه إياه.
فاللّه سبحانه هو الذي زوج النبىّ بأمره من مطلقة متبنّاه، كما يقول سبحانه:
{فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها.. لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً}.
فهذه هى حكمة هذا الزواج.
والذي يجب أن نقف عنده، ونطيل النظر إليه، هو الطلاق.
طلاق زينب من زوجها، أو تطليق زيد لزوجه.
هل كان هذا الطلاق بأمر سماوى، تلقاه النبىّ من ربه، ثم آذن به زيدا فأطلاع فيه أمر ربه وطلق زوجه؟
هذا ما لم يكن، ولن يكون من تدبير سماوى، وفي شريعة قامت على العدل والإحسان، وعلى رفع الحرج عن الناس.. ولو كان ذلك بأمر سماوى، لكان فيه إعنات، بل وجور على حقّ إنسان لم يأت أمرا يقضى بهذا الحكم عليه، فضلا عما في ذلك من قطع لعلاقة مقدسة، بين الزوج وزوجه، كان الإسلام، وكانت شريعة الإسلام، أحرص ما يكون على توثيق الرباط القائم بين الزوجين، وعلى التماس كل الوسائل الممكنة في الناس، للحفاظ عليه، وحياطته من دواعى الوهن والانحلال.
ثم كيف يكون من حكم الشريعة، أن تجعل أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق، ثم تعود، فتأمر به، وتحمل الناس عليه حملا؟
هذا ما لم يكن، ولن يكون!
فهل كان هذا الطلاق عن رغبة من رسول اللّه، وعن إرادة له في الزواج من زوج مولاه زيد، بعد أن رآها في حال من أحوالها، فوقعت من نفسه، كما يتخرص بذلك المتخرصون، من أهل الضلال والنفاق، ومن أهل العداوة والكيد للإسلام ورسول الإسلام؟ وكما تمضى هذه الفرية، فتقول إن زيدا حين شعر بما لزينب في نفس رسول اللّه، اصطنع هذه المخاصمة بينه وبين زوجه، كى يطلقها، إرضاء للنبىّ، ومسارعة إلى إيثاره بأحبّ شيء في يده!! ومن عجب أن ينخدع كثير من المفسّرين لهذه الفرية المسمومة، ويجدون لها مساغا بهذا الظاهر الذي يلوح منها، والذي يمثّل وجها من وجوه الحبّ والإيثار لرسول اللّه في نفوس المسلمين، وتخلّيهم له عن أحب ما يحبون ويؤثرون.. فنراهم يتأولون على هذا قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ.. اللَّهَ.. وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.. وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} ويذهبون في تأويلهم إلى أن النبىّ- صلوات اللّه وسلامه ورحمته وبركاته عليه- إذ يقول لزيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} إنما يقولها ونفسه متطلعة إلى زينب، مترقبة لطلاقها.. ثم يتأوّلون قوله تعالى: {وَاتَّقِ اللَّهَ} أنه خطابّ للنبىّ، يحمل إليه عتابا من ربه، ودعوة إلى تقواه، لأنه- ومعاذ اللّه- أخفى ما بقلبه من حبّ لزينب، وقال لمولاه زيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}! ولهذا جاء العتاب بعد العتاب، بل اللوم بعد اللوم في قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ}! ونسأل أولئك الذين يستقيم لهم هذا الفهم من الآية الكريمة: على أية صورة يتصورون رسول اللّه، وأمينه على رسالة السماء؟ أيجوز على رسول من رسل اللّه الدّهان والمخادعة؟ إن ذلك مما يسقط مروءة أي إنسان في الناس، فكيف برسول اللّه... سيد الناس، وأكملهم كمالا، وأجمعهم جميعا لمكارم الأخلاق كلها في أعلى مستواها، وأرفع منازلها؟
مستحيل إذن استحالة مطلقة، أن يكون شيء من هذا طاف برسول اللّه، أو ألمّ به في أي حال من أحواله، أو عرض له في خطرة نفس، أو طرفة خاطر! وننظر الآن في هذا الطلاق، وكيف وقع! إن الزواج الذي تمّ بين زينب وزيد، كان- كما قلنا- من عمل النبي، بأمر من ربه.. وهو زواج قام من أول الأمر على غير توافق، أو تكافؤ.
والنبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- إذ قام بهذا الزواج بعلم هذا، والسماء تعلم هذا قبل أن يعلم النبي.
والسؤال هنا: لما ذا إذن هذا الزواج؟ وما حكمته؟
إنه زواج، يجرى في ظاهره، وعلى مستوى النظر البشرى- على ما يجرى عليه كثير من حالات الزواج، التي تعرض لها عوارض الشقاق والخلاف، ثم الطلاق، وذلك بعد أن يتم الزواج، ويعايش الزوجان كل منهما الآخر.
أما قبل الزواج، فلم يكن أحد يدرى ما سيقع من خلاف، وطلاق، إلا رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- مما أنبأ به ربه، لأمر أراده اللّه سبحانه، ولم يقع بعد.
فلما تم زواج زيد وزينب، وعاشر كل منهما صاحبه، وظهرت أعراض الخلاف بين الزوجين، وشقى كلّ منهما بصاحبه، كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو الزوجين إلى إصلاح ما فسد من أمرهما، متجاهلا، الحكم المقضى به في أمر هذا الزواج، وهو الفراق الذي لا بد منه، وغير ملتفت إلى القدر المقدور على هذا الزواج، كما علم من ربه.!!
إن النبي إنما يعمل هنا، على مستوى الحياة البشرية، ويعالج أمرا بين شخصين لم ينكشف لهما من حجب الغيب ما انكشف له منه، وكان من مقتضى هذا أن يدعو كلّا من الزوجين إلى المياسرة والمحاسنة.. أما ما يؤول إليه أمرهما بعد هذا، فأمره إلى اللّه.. {وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}، وعلى هذا المفهوم ننظر في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ}.
ننظر في كلمات اللّه هذه، فنرى:
أولا: أن زيدا يوصف بأنه من الذين أنعم اللّه ورسوله عليهم.. فقد أنعم اللّه سبحانه وتعالى عليه بالإسلام، وأنعم الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- عليه بالحرية.. حين أعتقه، وهداه إلى الإسلام.
ثانيا: قول النبي، لزيد كما حكاه القرآن، وهو: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} مما يقضى به تمام الإحسان إلى زيد.. فهو موضع نعمة النبي، ورعايته، وحبه، وبهذه النعمة والرعاية والحب، يتوجه إليه بالنصح في أمر فيه صلاح حياته مع زوجه.. فضلا عن رسالة الرسول في الناس عامة من النصح والإرشاد والتوجيه.
وثالثا: قوله تعالى: {وَاتَّقِ اللَّهَ}.
يمكن أن يكون من قول النبي لزيد معطوفا على قوله له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ} أي واتق اللّه في الرابطة التي بينك وبينها.. ويمكن أن يكون خطابا للنبى من ربه، وفيه لطف بالرسول من ربه، ورفق به من هذا الإرهاق الذي يرهق به نفسه، في إصلاح أمر يعلم- مما أعلمه ربه- أنه مقضىّ فيه.. كما يقول اللّه تعالى في ختام الآية:
{وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}.
فليتق النبي اللّه في نفسه وليرفق بها، ولا يحاول إصلاح أمر، لن يصلح.
ورابعا: قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} إشارة إلى ما كان يخفيه النبي من أمر اللّه في هذا لزواج، وأنه منته إلى الفراق.. فقد أخفى النبي هذا الذي علمه من ربه، ولكن اللّه سبحانه وتعالى سيبديه في حينه، وذلك حين يقع القدر المقدور، ويتمّ الطلاق.
وخامسا: قوله تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ}.
وإنّ الذي كان يخشاه النبي، هو ما يعقب هذا الطلاق، وهو أن يتزوج مطلقة متبناه، وما يتقوّله المنافقون ومن في قلوبهم مرض في هذا الزواج.. إنه امتحان للنبى فيما امتحن به على مسيرة الدعوة التي قام عليها، فليصبر على هذا الامتحان به وليحتمل ما يجىء إليه من أذى، في سبيل إنفاذ أمر اللّه، وإمضاء مشيئته، دون التفات إلى تخرصات المتخرصين، وشناعات المشنعين.
ولا ندع النظر في أمر الطلاق الذي وقع هنا، دون أن نشير إلى أنه لم يدخل على حياة زوجية كانت قائمة على أسس متينة من أول أمرها، بل إنه دخل على حياة زوجية- وهذا من تدبير السماء- كانت تحمل في كيانها دواعى الفرقة، لأمر أراده اللّه.. وفي هذا ما يشير إلى حرص الإسلام على سلامة الحياة الزوجية السليمة.. وأنه حين أراد أن يتخذ من الطلاق حكما شرعيا، عمد إلى حياة زوجية، لم يجتمع لها شمل، ولم تنعقد عليها القلوب!
ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها} مشيرا إلى ما كان يخفيه النبي في نفسه، وهو أن يتم زواج النبي من مطلقة متبناه بأمر من ربه، وذلك بعد أن يكون قد عاشرها زيد معاشرة الأزواج، لا أن يكون قد عقد عليها ولم يدخل بها.. فالطلاق بعد الدخول، هو الذي يعطى الزواج صفته الكاملة.. وبهذا يكون من باب أولى زواج مطلقة المتبنى التي لم يدخل بها.
ثم يجىء قوله تعالى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} بيانا كاشفا عن الحكمة من هذا الأمر السماوي للنبى بالزواج من مطلقة متبناه، وهو أن يدفع الحرج عن المؤمنين في التزوج من مطلقات أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا.. وذلك أنه إذا كان النبي قد فعل هذا، فلا حرج إذن على المؤمنين أن يفعلوا ما فعل، وأن يتأسوا به.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.
ثم تختم الآية ب قوله تعالى: {وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}.
وفيه ما أشرنا إليه من قبل، من نفاذ الأمر، الذي يقضى اللّه به في خلقه، وأنه- سبحانه- لا معقب لحكمه، ولا رادّ لما قضى به.
وأمر اللّه هنا، هو ما قضى به اللّه سبحانه من الفرقة بين زيد وزوجه، ثم زواج النبي من مطلقة زيد هذه.
وفي الحكم على الأمر بأنه مفعول، إشارة إلى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سيفعل هذا الأمر، وإن كان يجد في نفسه حرجا منه.
وقوله تعالى: {ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} هو نفى للحرج، ودفع لما يجد النبي منه، في زواجه من مطلقة متبناه.
إن ذلك أمر من اللّه، والنبي إذ يفعله إنما يمضى به أمر ربه، وينفذ مشيئته.
فلا شيء من الحرج في هذا، إذ كان الأمر قائما على الصحة والسلامة، موزونا بميزان العدل والإحسان، لأنه حكم الحكيم العليم، ربّ العالمين.
وفي قوله تعالى: {فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} إشارة إلى أن كل ما يفرض اللّه للنبى، ويبيحه له، لا حرج فيه، ولا التفات معه إلى أي قول يقال، من عدو أو صديق.
وقوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} السنة هنا: الحكم والشأن.. والذين خلوا: هم الذين سبقوا من رسل اللّه.
وسنة منصوب.. مفعول لفعل محذوف.، تقديره سننّا بك سنة الذي خلوا من الرسل.
والمعنى أنك أيها النبي لست بدعا من الرسل في الأخذ بأمر اللّه، وامتثاله على وجهه، دون التفات إلى مقولات الناس، ودون خشية لما يتخرص به المتخرصون، فقد سبقك إلى هذا عباد مكرمون، هم إخوانك الكرام من رسل اللّه، فقد كانوا ولا يخشون في اللّه لومة لائم.. كما تشير إلى ذلك الآية التالية.
وقوله تعالى: {وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً}.
هو تعقيب على قوله تعالى: {ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}.
أي أن ما فرض اللّه للنبى، هو قدر من قدر اللّه، وأنه لا بد أن ينفذ هذا القدر كما قدّره اللّه، وإذن فليوطّن النبي نفسه على ذلك، وليمض لما أراد اللّه له.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ.. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً}.
هو بدل من قوله تعالى: {الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}.
فالذين خلوا من قبل، هم أولئك الذين يبلغون رسالات اللّه كما بلّغهم اللّه إياها، دون التفات إلى أحد، ودون نظر إلى ما يكون من الناس إزاء هذه الرسالات المبلغة إليهم، من استجابة لها أو إعراض عنها.. إنهم يبلغون رسالات اللّه على وجهها، ولا يعملون حسابا لما يلقاهم به السفهاء والجهال من لوم، أو سفه، وإنما همهم كلّه هو حسابهم عند اللّه، وما يكون لهم من جزاء.
{وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً} فهو سبحانه وحده الذي يخشى حسابه، ويرجى ثوابه.
قوله تعالى: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}.
هو تقرير لهذه الحقيقة الواقعة، التي تدفع كل باطل، وتفضح كل زيف، وهى أن محمدا- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يكن أبا لأحد، أبوة نسب.. فقد كان له صلوات اللّه وسلامه عليه- أولاد، ولكن هؤلاء الأولاد ماتوا صغارا، ولم يبلغ أحد منهم مبلغ الرجال... وزيد بن حارثة هذا، الذي بلغ مبلغ الرجال، وتزوج، وهو في هذا النسب الذي أضيف به إلى النبي ابنا له- زيد هذا ليس ابنا لمحمد.. {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ}.
تلك حقيقة واقعة لا يمارى فيها أحد، أما هذا النسب الذي أضيف إليه زيد، فهو نسب مصطنع، فلا معتبر له، ولا نظر إليه..!
وهكذا الشأن في كل نسب جاء على تلك الصفة.
أما أبوة النبي للمؤمنين، فهى أبوة روحية، يدخل فيها كل مؤمن ومؤمنة.
وقوله تعالى: {وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ} هو استدراك للنفى الذي شمل عموم نسبة الأبوة لأى رجل من الرجال إلى محمد.
وليس معنى هذا قطع الصلة بين محمد وبين الناس.
فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- وإن انقطعت أبوة النسب بينه وبين أي أحد من الرجال، فإن المؤمنين جميعا ينتسبون إليه نسبا أولى وأقرب من هذا النسب، بحكم أنه رسول اللّه فيهم، ومبلّغ رسالة اللّه إليهم.. فهو بهذه الصفة أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، وهذا أعظم وأشمل مما تعطيه أبوة النسب.
وفي قوله تعالى: {وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ} إشارة إلى أنه صلوات اللّه وسلامه عليه أب لكل مؤمن ومؤمنة، من كل دين، حيث أنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وارث النبيين جميعا، والمهيمن برسالته على رسالات الرسل كلهم، فلا رسول بعده إلى يوم الدين.. لقد ختمت به- صلوات اللّه وسلامه عليه- رسالات السماء، وأضيفت شعاعاتها كلها إلى شمس شريعته، فأصبحت تلك الشعاعات، مضمونا من مضامينها، وقبسا من أقباسها.
فلا هدى بعد هذا إلا من هداها، ولا نورا إلا من نورها.. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ..}.
وبهذه الآية تختم قصة زواج النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، من زينب بنت جحش، مطلقة مولاه، ومتبناه، زيد بن حارثة.. وقد شغب عليها المشاغبون، وبنوا حولها من أوهامهم وضلالاتهم، أساطير من واردات الكذب والكيد للإسلام، ولنبىّ الإسلام، حتى لقد صوروا النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- رجلا استبدت به الشهوة، حتى لقد كاد يتخلى عن رسالته التي أقامه اللّه عليها، ويشغل نفسه بالجري وراء إشباع شهواته.
وآيات القرآن الكريم- لمن يؤمنون بأنه من عند اللّه- صريحة في أن الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- كان ممتحنا من ربه بهذا الزواج الذي لم يكن يدور في خاطره في أية لحظة من لحظات حياته، وذلك ليقضى بهذا الزواج على تلك العادة المتمكنة في المجتمع العربي، والتي دخلت الإسلام مع المسلمين بهذا السلطان المتمكن، الذي كان لها على النفوس.
فإذا نظرنا إلى ماوراء آيات القرآن الكريم، نجد أن زينب بنت جحش هذه لم تكن غريبة عن النبي، بل كانت ابنة عمته، وكانت تحت نظره من مولدها إلى أن خطبها هو- صلوات اللّه وسلامه عليه- لزيد بن حارثة.
فماذا كان يمنع النبي من أن يتزوجها لو أنها وقعت من قلبه موقعا؟
ولو أنه كان للنبى أية رغبة فيها أكان يخطبها ويزوجها لمتبناه، فتحرم عليه إلى الأبد، كما كان هو الحال في زوجات الأبناء الأدعياء قبل أن ينزل القرآن بما يقضى على التبنىّ وأحكامه! أذلك مما يستقيم أبدا مع عقل أو منطق؟
{ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا.. سُبْحانَكَ.. هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ}.


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} مناسبة هذه الآية لما قبلها من آيات، هى أن الآيات السابقة عليها تضمنت حكما من الأحكام، كان مبعث ظنون، ومثار شغب عند المنافقين والذين في قلوبهم مرض... وليس يحمى المؤمنين من غبار هذه الظنون، ودخان هذا الشغب، إلا أن يعتصموا باللّه، وأن يذكروا جلاله وعظمته، وأن يستحضروا علمه وقدرته، فذلك هو الذي يحفظ عليهم إيمانهم، ويدفع عنهم غواشى الشكوك والريب، التي يسوقها إليهم الكافرون والمنافقون.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}.
هو إعراء للمؤمنين بذكر اللّه، وتسبيحه بكرة، أي صباحا، وأصيلا، أي مساء، كما يقول سبحانه: {فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [17: الروم].
فاللّه سبحانه وتعالى إنما يذكر بالرحمة والرضوان، عباده الذين يذكرونه، ويصلى على من يصلون له ويسبحونه، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [152: البقرة] والمراد بالذكر هنا ذكر الرحمة والإحسان.
وصلاة اللّه على المؤمنين هى رحمته لهم، وإحسانه إليهم، ورضاه عنهم.
وصلاة الملائكة، هى الاستغفار للمؤمنين، كما يقول سبحانه وتعالى:
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ} [7: غافر].
وقوله تعالى: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} إشارة إلى أن ذكر المؤمن ربه وتسبيحه بحمده، يدنيه من ربه، ويقربه من منازل رحمته، ويصله بعباده المقربين من ملائكته، وبهذا يستقيم على طريق اللّه، ويخرج من عالم الظلام والضلال، إلى عالم النور والهدى.
وفي قوله تعالى: {وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} مزيد فضل وعناية من اللّه سبحانه وتعالى بالمؤمنين، وأنهم هم الذين ينالون رحمة اللّه، ويختصون بفضله وإحسانه.
قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً}.
هو بيان لرحمة اللّه بالمؤمنين وإحسانه إليهم، وأنهم حين يلقون اللّه يوم القيامة، تلقاهم ملائكته لقاء كريما، بهذه البشرى المسعدة لهم، حيث يلقونهم بهذه التحية: سلام عليكم. فتذهب عنهم تلك التحية، هذه الوحشة، ويزايلهم هذا الخوف، في هذا الموطن الجديد، الذي حلّوا به بعد مفارقة الحياة الدنيا.
ويوم لقاء اللّه هنا، هو اليوم الذي يفارق فيه الإنسان دنياه.. حيث يزايل آخر منزل له من منازل الدنيا، ويحل في أول منزل من منازل الآخرة.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [32: النحل].
وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} هو بيان لما يلقى المؤمنون في الآخرة من جزاء كريم من اللّه.
وفي إعداد هذا الأجر، إشارة إلى أنه أجر عظيم، قد هيىء لهم، ورصد للقائهم من قبل أن يلقوه، وفي هذا مزيد اعتناء بهم، بهذا الاستعداد للقائهم.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً}.
هو إشارة إلى مقام النبي عند ربه، وإلى مكانته في المؤمنين، وأنه هو المرسل من عند اللّه، شاهدا على الناس، بما كان منهم من إيمان أو كفر، ومبشرا المؤمنين بالأجر الكريم، ومنذرا الكافرين بالعذاب الأليم.. وأنه يدعو إلى اللّه، وإلى شريعة اللّه، بما يأذن له به اللّه، فلا يقول شيئا من عنده، وهو- بما يدعو به من آيات ربه- يكشف للناس طريق الحق، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
وفي قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً} إشارة إلى ما كان من أمر اللّه للنبى- بالتزوج من مطلقة متبناه.. فهو بهذا الزواج شاهد يرى فيه المسلمون القدوة والأسوة.
وفي قوله تعالى: {وَسِراجاً مُنِيراً} إشارة أخرى إلى هذا الزواج، أنار للمسلمين طريقهم إلى الحق في هذا الأمر الذي كان قد اختلط فيه الحق بالباطل.. وهذا القيد للشهادة وللسراج المنير، هنا، لا يمنع من إطلاقهما، فالنبى شاهد قائم على كل حق وخير، وهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- سراج منير، يكشف كل باطل وضلال.
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً} هو معطوف على محذوف تقديره: هذا فضل اللّه عليك، فاهنأ به، وبشر المؤمنين كذلك بأن لهم من اللّه فضلا كبيرا.. فهم أتباعك، وأولياؤك.. فإذا كان لك- أيها النبي- هذا العطاء الجزيل من ربك، فإن للمؤمنين حظا من عطاء ربهم، وما كان عطاء ربك محظورا.
قوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ.. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.
وفي هذا العطف أمور:
أولا: قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يفهم منه ضمنا، وأنذر الكافرين والمنافقين بأن لهم عذابا أليما.
وثانيا: قوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} يفهم منه ضمنا كذلك، واستجب للمؤمنين واستمع لهم، واقترب منهم، وشاورهم في الأمر.
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} لا تستمع إليهم، ولا تأمن جانبهم.
وقوله تعالى: {وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي لا تحفل بما يأتيك منهم من أذى، بالقول أو الفعل، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فهو الذي يتولى حراستك وحفظك مما يكيدون لك به {وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا} فلا وكالة أقوى ولا أمنع ولا أحفظ من وكالته.. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [3: الطلاق].


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا} مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت حالا من أحوال الطلاق والزواج، وهو طلاق امرأة الابن المتبنّى، ثم زواجها من أبيه المتبنّى له.. فناسب أن يذكر حكم المرأة المطلقة، من حيث العدة، والنفقة.
فالمرأة المعقود عليها عقد نكاح، ولم يدخل بها الزوج، ولم يمسّها، ولم يختل بها خلوة شرعية- ليس عليها عدة، لمن طلقها، وإنما تحل لمن يريد الزواج منها بمجرد طلاقها.. إذ كانت غير مشغولة بما للرجل عليها من حق، وهو استبراء الرحم.
والمراد بالمسّ هنا المباشرة، ومعاشرة الرجل للمرأة معاشرة الزوجية.
وفي قوله تعالى: {إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ} إشارة إلى أن من شأن المؤمن أن يقصر نفسه على زواج المؤمنة، وإن كان قد أبيح له التزوج بالكتابيات، فإن الزواج من المؤمنات أفضل وأولى.
وفي قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا} إشارة إلى ما توجبه الشريعة السمحاء، من الرفق، والمياسرة، والإبقاء على الصلات الإنسانية، عند انفصام الحياة الزوجية.. والمراد بالمتعة، هو ما يعطيه الرجل مطلقته من مال أو متاع، جبرا لخاطرها، وتأمينا لحياتها المستقبلة، التي كان هذا الطلاق سببا في اضطرابها.
والسراح الجميل، هو الانفصال بالمودة والإحسان، من غير كيد ومضارّة.. كما يقول سبحانه: {فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} مناسبة لهذه الآية للآيات التي قبلها، هى أن الآيات السابقة قد جاءت بأمر انتقض به بناء من أبنية الجاهلية التي قامت على الضلال، وهو تبنّيهم أبناء غيرهم، ثم تجاوزوا هذا إلى تحريم مطلقات هؤلاء الأبناء الأدعياء، عليهم.
تمكينا لهذه البنوّة المدعاة، ومعاملتها معاملة بنوّة النسب، سواء بسواء.
وقد كان من تدبير اللّه سبحانه وتعالى أن يكون للنبىّ ابن متبنّى، وأن يكون هذا الابن متزوجا، ثم يجىء حكم اللّه أمرا بإبطال هذا التبني، وبإلزام النبىّ أن يتزوج مطلقة متبناه، بعد أن طلقها وانقضت عدتها.. وكان ذلك مدعاة للكافرين والمنافقين أن يشنعوا على النبىّ، وأن يكثروا من الأقاويل الباطلة، والأحاديث المفتراة.
وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}.
فهذا الإخبار بحلّ الأزواج، إنما هو تأكيد لحلّهن، ووصف كاشف للحال التي هن عليها، ومنهن زينب مطلقة متبنىّ النبىّ.. وفي هذا ردّ على الكافرين والمنافقين، الذين جعلوا زواج النبىّ من مطلقة متبناه مادة للغمز والاتهام.. وكان الردّ إفحاما للكافرين والمنافقين، وكبتا لهم، إذ قد جاء قول اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} داعيا النبىّ إلى ألا يشغل نفسه بمقولات المبطلين، وأن يتمتع بما أحلّ له من طيبات، فهو من قبيل قوله تعالى {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [4: النساء].
ثم إنه لكى يزداد أهل الضلال والنفاق غمّا إلى غمّ، ذكر اللّه سبحانه وتعالى في هذا المقام، ما اختص به نبيه الكريم، مما لم يكن لغيره من المسلمين، من سعة في الحياة الزوجية.
فأولا: كان في يد النبىّ من النساء اللاتي تزوجهن بمهر، عند نزول هذه الآية تسع نسوة.. ونصاب المسلم لا يتجاوز أربعة.
وثانيا: جاء في قوله تعالى: {وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} من بيان لصنف آخر من النساء، أبيح للنبىّ التمتع بهن، وهن من يملكه النبىّ منهن من الفيء والغنائم، وهذ حكم عام للمسلمين جميعا.. على أن للنبىّ من الغنائم ما يصطفيه من السّبى، قبل قسمة الفيء.. وهذا من خصوصيات النبىّ هنا.
وثالثا: جاء بعد ذلك قوله تعالى: {وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ} مشيرا إلى صنف ثالث أبيح للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- التزوج به، وهن بنات العم وبنات العمات. وبنات الخال وبنات الخالات.. اللاتي هاجرن، مع المهاجرين فرارا بدينهن، وإيثارا للّه ورسوله.. فهؤلاء المهاجرات هن ممن أبيح للنبى التزوج بهن، إلى أزواجه التسع اللاتي كن معه.
ولا بد أن يكون الأمر هنا منظورا فيه إلى بعض المهاجرات من أقارب النبىّ، ممن تستدعى حالهن البر والمواساة، في تلك الغربة.
ورابعا: جاء بعد ذلك قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} مبيحا للنبىّ التزوج من صنف رابع من النساء، على أسلوب لا يحلّ لغيره من المسلمين، وهو أن تهب المرأة- غير المتزوجة- نفسها للنبى.
وفي قوله تعالى: {مُؤْمِنَةً} إشارة إلى أن هذه الهبة إنما أرادت بها المرأة المؤمنة التقرب إلى اللّه، والاستظلال بظل رسول اللّه، والظفر بالقرب منه، والفوز بلقب أم المؤمنين.. أما غير المؤمنة من الكتابيات فإنها لا تهب نفسها للنبىّ إلا طلبا لمرضاة نفسها، بأن تكون زوجا لهذا الإنسان العظيم، الذي له هذا السلطان لروحى الذي لا حدود له على المسلمين، ولو أنها كانت تحبّ النبىّ حقّا لآمنت به، ولدخلت في دين اللّه.
وفي قوله تعالى: {إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها} تعليق للزواج على رضا النبىّ، وقبول الهبة ممن وهبت نفسها له.
وقوله تعالى: {خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي فاتخذها زوجا لك، على أن يكون ذلك حكما خالصا لك من دون المؤمنين، لا يشاركك فيه أحد.
وفي العدول عن الخطاب إلى الغيبة، وفي إظهار النبىّ، بدلا من الضمير في قوله تعالى: {إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ} تعظيم لشأن النبىّ، بذكر اسمه، ثم بتكرار هذا الذكر.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن في ذكر النبىّ بصفته وهى النبوّة إشارة إلى أن هذا الحكم إنما هو خاص بمن كان في هذا المقام، مقام النبوّة، لا أي مقام آخر غير هذا المقام.
فهذه الأصناف الأربعة من النساء، قد أحلّ اللّه للنبىّ ضمّهن إلى بيت الزوجية واتخاذهن شريكات للحياة معه.
وواضح أن هذه التوسعة على النبىّ في الحياة الزوجية، لم تكن لمجرد قضاء الشهوة، كما يقول بذلك أهل الضلالات والكيد للإسلام.. بل إن هذه الخصوصيات التي للنبىّ، إنما كانت في مقصدها الأول علاجا لحالات نفسية واجتماعية، واقتصادية، لا تجد لها الدواء الناجع إلا في ظلال النبىّ.. كما رأينا ذلك في زواجه صلوات اللّه وسلامه عليه من زينب مطلقة متبناه، والذي كان من حكمته رفع الحرج عن المسلمين في التزوج من نساء أدعيائهم.. وكما في زواجه- صلوات اللّه وسلامه عليه- من صفية، بنت حيىّ بن أخطب، وكان أبوها سيدا من سادات اليهود، ورأسا من رءوسهم، فلما وقعت في السّبى، استنقذها النبىّ الكريم، وحفظ كرامتها بزواجه منها.. وهكذا نجد مع كل زواج تزوجه النبىّ، حكمة قائمة وراءه، أسمى وأعظم من طلب المتعة وقضاء الشهوة.
وسنعرض لهذا في مبحث خاص.. إن شاء اللّه.
وفي قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} إشارة إلى أن تلك الخصوصيات هى للنبى، وأنه ليس للمسلمين أن يتأسوا بالنبي فيها، فقد عرفوا ما فرض اللّه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم، فليس لهم أن يتجاوزوا هذا الذي بيّنه اللّه لهم.
وقوله تعالى: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} تعليل لهذه الأحكام التي بيّنها اللّه للنبىّ في شأن ما أحلّ له من نساء.. فهذا البيان هو من عند اللّه، وتلك الأحكام هى أحكام اللّه، فليأخذ النبىّ بها، غير متحرّج، ولا ناظر إلى قولة كافر أو منافق.
وقوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
إشارة إلى ما للّه سبحانه وتعالى من مغفرة ورحمة، تسع أولئك الذين تجرى ألسنتهم بقولة سوء فيما اختص اللّه نبيه الكريم به، ثم تابوا من قريب، ورجعوا إلى اللّه، واستغفروا لذنبهم {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.
قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ.. ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً} الإرجاء: الإمهال، والإنظار.
والإيواء: الضمّ، والجمع.
والآية، ترسم السياسة التي يأخذ بها النبىّ هذا العدد الكثير من النساء اللائي جمعهن إليه.
إنّهن إذا حاسبن النبي محاسبة الزوجات لأزواجهن، واقتضين حقوق الزوجية كاملة منه- كان ذلك عبئا ثقيلا على النبىّ، الذي يحمل أعباء ثقالا تنوء بها الجبال، في إقامة بناء المجتمع الإسلامى، وإرساء قواعد الدّين.
فكان من رحمة اللّه برسوله، وإحسانه إليه، أن أخلى يديه جميعا من تلك الواجبات المفروضة على الرجال قبل أزواجهم في المعاشرة، والمباشرة، وذلك حتى يفرغ النبىّ للمهمة العظيمة التي أقامه اللّه عليها.
فللنبىّ أن يرجىء من يشاء من نسائه، بمعنى أن يتجنبهن تجنبا مؤقتا من غير طلاق، وله- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يضمّ إليه من يشاء من نسائه، وأن يقسم بينهن كيف يشاء.. ثم إن له بعد هذا أن يضمّ إليه من أرجأ منهن.. إذا رغب فيها.
فذلك كله، تخفيف عن النبىّ، ورفع لإعناته وإرهاقه بعد أن حمل هذا العبء الثقيل من النساء، إلى جانب ما حمل من أعباء ثقال.
وفي قوله تعالى: {ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} إشارة إلى أن هذا التدبير الذي من شأنه أن يجعل نساء النبي كلهن إلى يده، عن قرب أو بعد- فيه إرضاء لهن جميعا، القريبة منهن لقربها، والبعيدة لصلتها بالرسول، وانتسابها إليه، وعدّها من أمهات المؤمنين، وحسبها بهذا قرّة عين، وروح روح، وسكن فؤاد.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكان َ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً}.
.. علم اللّه سبحانه وتعالى بما في القلوب، داعية إلى أن تكون القلوب مستودع خير وعدل وإحسان، حتى يرى اللّه منها ما هو خير وعدل وإحسان، فيثيب أهلها بما هم أهل له من ثواب جزيل وأجر كريم.
والقلوب في تلك المواطن التي تجمع بين الرجال والنساء في حياة زوجية، هى ملاك الأمر في إصلاح هذه الحياة، وازدهارها، وإرواء النفوس من ينابيع الرحمة والمودة.. وذلك إذا صلحت القلوب، وخلصت النيات.
أما إذا انطوت القلوب على فساد، وتلاقت على غش وخداع، فلن تثمر الحياة الزوجية إلا ثمرا نكدا، يطعم منه الزوجان ما يشقيهما، ويضنيهما.
ويزرع العداوة والشنآن بينهما.
وفي وصف اللّه سبحانه وتعالى بالحلم، دعوة إلى كل من الأزواج والزوجات إلى الأناة والرفق، وإلى الصبر والاحتمال، لما يقع في الحياة الزوجية من أمور يضيق بها أحد الزوجين أو كلاهما.. فالحياة يسر وعسر، واستقرار واضطراب، واستقامة وعوج.. ومن أرادها على الوجه الذي يحبّ فإنما يريد أمرا غير واقع أبدا.
قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً}.
اختلف في المحذوف المضاف إليه {بعد}.
وهل هو قيد لتلك الأصناف الأربعة التي أحلّها اللّه للنبى في قوله {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ.. الآية}.
أم أنه قيد لتلك الحال التي تلقى فيها النبي هذا الحكم؟
فعلى التقدير الأول، يكون المعنى، لا يحلّ لك التزوج من النساء بعد هذه الأصناف الأربعة، ويكون المراد بالبعديّة البعدية الوصفية لا الزمانية، أي لا يحلّ لك غير هذه الأصناف الأربعة التي عرفت صفاتها، وهذا من شأنه أن يبيح للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يتزوج غير نسائه التسع اللاتي كن معه، عند نزول هذه الآية- ولكن ذلك التزوج محصور في صنفين من النساء، هما:
ولا: بنات عم النبىّ، وبنات عماته، وبنات خاله، وبنات خالاته، اللاتي هاجرن معه، أي كن من المهاجرات، لا بمعنى أنهن صحبنه في هجرته.
وثانيا: أي امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبىّ.
أما غير ذلك من النساء فلا يحل له التزوج منهن.
أما على التقدير الثاني، فيكون المعنى أنه لا يحلّ للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يتزوّج بعد نزول هذه الآية من أية امرأة أخرى.. بل يقف عند هذا الحدّ.. أما ما ملكت، أو تملك يمينه بعد هذا من نساء فهنّ حلّ له، على الإطلاق.
وهذا هو الرأى الذي نعوّل عليه، ونأخذ به، وذلك لما يأتى:
أولا: هذا الأمر للنبىّ بالوقوف عند هذا الحدّ من التزوج بالنساء، هو في الواقع تخفيف عن النبىّ، ورفع للحرج الذي يجده من حمل نفسه على التزوج ممن يهبن أنفسهن له، وهنّ كثيرات، طامعات في رضا اللّه بالقرب من الرسول والعمل على مرضاته.. وكذلك الشأن فيمن هن قريبات له، وتعرض لهنّ ظروف قاسية، تدعو النبي إلى موساتهن بضمهن إليه، كمن يستشهد أزواجهن في سبيل اللّه.
فهذا لا شك تخفيف عن النبىّ، ودفع للحرج، بهذا الأمر السماوي الذي لا يجعل له سبيلا إلى التزوج بمن تهب نفسها له، أو بمن تدعو الحال بضمها إليه، وتزوجه منها، من بنات عمه أو بنات عماته، أو بنات خاله أو بنات خالاته.
وثانيا: في الإبقاء على حل ما ملك أو يملك النبي من إماء، هو أيضا من باب التخفيف ودفع الحرج عن النبىّ.. وذلك لأن مئونة الإماء أخفّ، إذ ليس لهن ما للحرائر الزوجات من حقوق تقابل ما للرجال عليهن من واجبات.
وثالثا: وعلى هذا يكون ما جاء في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ.. الآية} هو إقرار للأمر الواقع، ووصف كاشف للحباة الزوجية في بيت الرسول، وما ضمّ من تلك الأصناف الأربعة التي ذكرتها الآية من أصناف النساء.. ويكون قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ}.
أمرا للنبىّ بالوقوف عند من تزوج بهن إلى وقت نزول هذه الآية، وأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليس له أن يتزوج أية امرأة أخرى غير اللاتي كن معه.
أما ما ملكت أو تملك يمينه، فيبقى على أصل الإباحة له.
وفي قوله تعالى: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} تطيب لخواطر نساء النبي، وتطمين لقلوبهن، ألا يدخل عليهن من النساء من يشاركهن الحياة مع النبي، والسّكن إليه في بيت النبوة.. وأنهن في أمان من أن يخرجن من هذا الجناب الكريم أو يفارقن النبي بالطلاق.
وهذا جزاء عاجل من اللّه سبحانه وتعالى لهن إذ اخترن اللّه ورسوله، ورضين الحياة الرّوحية مع رسول اللّه، مؤثرات ذلك على الحياة الدنيا وزينتها.
وأما ما جاء في الآية السابقة من قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فهو على الإباحة التي تضمنها، من أن يتزوج النبي من أية امرأة مؤمنة- غير متزوجة- تهب نفسها للنبى، ويقبل النبي هذه الهبة.. وذلك الحكم موقوت إلى أن نزل قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} فلما نزلت هذه الآية، توقف العمل بهذه الرخصة.
وعلى هذا لم يكن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يتزوج من أية مؤمنة- غير متزوجة- تهب نفسها للنبى، بعد نزول هذه الآية.
وليس هذا من النسخ، كما يبدو في ظاهره، ولكنه إنهاء لحكم رخصة موقوتة، جاء قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} محددا نهاية هذا الوقت.. وهذا يعنى أنه قد كان بين نزول الآيتين فسحة من الوقت، بحيث كان من المؤمنات غير المتزوجات من وهبن أنفسهن للنبىّ، فقبل منهن من قبل.
هذا، ويرى بعض المفسرين، أن هذه الآية: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} منسوخة بالآية التي قبلها: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ} الآية.
وهذا يعنى، أن المنسوخ يسبق الناسخ، وأن الحظر جاء أولا، ثم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يحظر عليه التزوج من بنات عمه وبنات عماته، وبنات خاله، وبنات خالاته اللاتي هاجرن معه أو من أية مرأة مؤمنة تهب نفسها له، وذلك إلى أن لحق صلوات اللّه وسلامه عليه- بالرفيق الأعلى.
ونحن على رأينا، من أنه لا نسخ، ولا تناسخ بين الآيتين.. وأن الآية الأولى ظلت عاملة إلى أن نزلت الآية الثانية، فأقرت الأوضاع التي انتهى إليها بيت النبوة، وما ضمّ عليه من أزواج النبي: وبقيت الآيتان تمثلان دورين من أدوار التشريع، للنبى خاصة، من حياته الزوجية.. وهذان الدوران، يسبقهما دور ثالث، هو الإباحة المطلقة للنبى، بالتزوج ممن يشاء من النساء، بأى عدد شاء منهن.
وعلى هذا كانت مراحل التشريع للحياة الزوجية للنبى ثلاثا:
المرحلة الأولى: الحلّ المطلق في الزواج من أية امرأة مؤمنة، يحل زواجها في الشريعة الإسلامية، دون تقيد بعدد.
المرحلة الثانية: وفيها يتقرر ما يأتى:
أولا: الوقوف بالعدد من الزوجات عند الحد الذي كان موجودا عند نزول الآية.. وهو تسع نساء.
وثانيا: إن أراد النبي أن يتزوج على من عنده من النساء، فلا يجوز له أن يتزوج من غير صنفين من النساء: بنات عمه أو بنات عماته، وبنات خاله أو بنات خالاته.. ثم من أي امرأة مؤمنة- غير متزوجة- تهب نفسها للنبى، وهذا صنف جديد جاءت بحلّه هذه الآية، خاصا بالنبي.
المرحلة الثالثة: وفي هذه المرحلة تستقر الأوضاع للحياة الزوجية في بيت النبوة، فلا يدخل عليها جديد من النساء، ولا يخرج منها أحد ممن هن فيها.
وهذا- كما أشرنا إلى ذلك- تخفيف عن النبي، ورفع للحرج عنه، من تلك العيون الكثيرة المتطلعة إلى الصهر إليه أو الزواج منه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5